العمل التطوعي في الخليج: من ثقافة العطاء إلى نهج تنموي مستدام


العمل التطوعي في الخليج: من ثقافة العطاء إلى نهج تنموي مستدام

شهدت دول الخليج العربي في العقود الأخيرة نهضة تنموية شاملة، لم تقتصر على الاقتصاد والبنية التحتية فحسب، بل شملت أيضًا المجالات الاجتماعية والثقافية. ومن بين أبرز مظاهر هذا التطور، برز العمل التطوعي كرافد أساسي من روافد التنمية المجتمعية المستدامة، لينتقل من مجرد "فعل خيري" إلى نهج مؤسسي منظم له أهداف واستراتيجيات واضحة. فكيف تطورت ثقافة التطوع في الخليج؟ وما دورها في بناء مجتمعات قوية ومتماسكة؟


أولاً: جذور ثقافة العطاء في المجتمع الخليجي

1. العطاء كقيمة دينية واجتماعية

لطالما ارتبطت قيم التطوع في الخليج بالدين الإسلامي، الذي يحث على الصدقة والإحسان والتكافل الاجتماعي. فقد كانت المجتمعات الخليجية التقليدية، خاصة في القرى والبوادي، تقوم على التعاون والتكافل، من خلال مساعدة الجيران، وبناء المساجد، وتقديم المساعدة للمحتاجين دون انتظار مقابل.


2. دور الأسرة والمجتمع

ساهمت الأسرة الخليجية في غرس روح العطاء لدى الأبناء منذ الصغر، عبر نماذج عملية في الحياة اليومية. كما لعبت القبيلة والمجتمع المحلي دورًا في تعزيز المسؤولية الجماعية، وهو ما مهد الطريق لقبول فكرة العمل التطوعي لاحقًا ضمن أطر أكثر تنظيمًا.


ثانيًا: التحول من العمل الفردي إلى المؤسسي

1. نشأة الجمعيات الخيرية

شهدت الستينات والسبعينات من القرن الماضي ظهور أولى الجمعيات الخيرية في الخليج، خاصة في الكويت والمملكة العربية السعودية. ومع مرور الوقت، تطور العمل الخيري ليأخذ شكلًا مؤسسيًا أكثر احترافية، يخضع لقوانين وتشريعات تنظم عمله، ويعتمد على خطط واستراتيجيات مدروسة.


2. التطوع في رؤية 2030 الخليجية

تسعى دول الخليج، خاصة السعودية والإمارات وقطر، إلى تعزيز التطوع كجزء من خططها المستقبلية. ففي رؤية السعودية 2030، تم تخصيص هدف لرفع عدد المتطوعين إلى مليون متطوع سنويًا. كما وضعت الإمارات إطارًا وطنيًا للتطوع يشمل القطاعات الحكومية والخاصة والأهلية.


ثالثًا: مجالات العمل التطوعي في الخليج

1. التطوع في المجال الصحي

برز دور المتطوعين الخليجيين في القطاع الصحي، خاصة خلال جائحة كورونا، حيث شارك الآلاف في حملات التوعية، وتنظيم مراكز الفحص والتطعيم. كما تشجع بعض المؤسسات الصحية على تدريب متطوعين في مجال رعاية كبار السن وذوي الإعاقة.


2. التطوع البيئي

يشهد الخليج اهتمامًا متزايدًا بالبيئة، وقد ظهرت مبادرات تطوعية لتنظيف الشواطئ، وزراعة الأشجار، والتوعية بالاستدامة. وتعد مبادرة "زرعها" في الإمارات ومبادرة "نظف وطنك" في السعودية نماذج ناجحة في هذا السياق.


3. التطوع في التعليم

يشمل هذا القطاع تقديم دروس دعم مجانية للطلاب المحتاجين، والمشاركة في تنظيم المعارض التعليمية، أو تقديم تدريب مهني للشباب. وتسعى بعض المنصات الرقمية إلى الربط بين المتطوعين والمؤسسات التعليمية المحتاجة.


رابعًا: الشباب الخليجي في صدارة العمل التطوعي

1. وعي متزايد وانخراط فعّال

أظهرت دراسات حديثة ارتفاعًا ملحوظًا في نسبة الشباب الخليجي المنخرط في أنشطة تطوعية، بدافع الوعي المجتمعي والرغبة في المساهمة في التنمية. كما باتت الجامعات تشجع الطلبة على التطوع عبر إدماجه ضمن الأنشطة اللاصفية أو متطلبات التخرج.


2. مبادرات شبابية مستقلة

نشأت مبادرات شبابية مستقلة مثل "متطوعون بلا حدود" في البحرين، و**"همة" في قطر**، والتي يقودها شباب بهدف معالجة قضايا مجتمعية محددة مثل التعليم، البطالة، والصحة النفسية. ويتميز هؤلاء الشباب باستخدام وسائل التواصل لنشر أفكارهم وتوسيع نطاق تأثيرهم.


خامسًا: التحديات التي تواجه العمل التطوعي في الخليج

1. نقص التشريعات الموحدة

رغم وجود قوانين تنظم العمل التطوعي في بعض الدول، إلا أن هناك حاجة لتوحيد الأطر القانونية بين دول الخليج لتسهيل التعاون الإقليمي وتبادل الخبرات بين المؤسسات التطوعية.


2. ضعف التوعية بأهمية التطوع

لا تزال بعض الفئات في المجتمع تنظر إلى العمل التطوعي كأمر ثانوي أو غير ذي جدوى، ما يتطلب حملات توعية مركزة تظهر أثر التطوع على الفرد والمجتمع.


3. استدامة المبادرات

يواجه الكثير من المبادرات التطوعية تحديات تتعلق بالاستمرارية، خصوصًا تلك التي تعتمد على جهود فردية أو موسمية. ويعود ذلك غالبًا إلى غياب التمويل أو عدم وضوح الأهداف بعيدة المدى.


سادسًا: نحو نهج تنموي مستدام في التطوع

1. دمج التطوع ضمن الخطط التنموية

تعمل الحكومات الخليجية حاليًا على دمج العمل التطوعي ضمن خطط التنمية المستدامة، من خلال إنشاء بنوك للوقت التطوعي، وربط المتطوعين بالمؤسسات عبر المنصات الرقمية، وتقديم حوافز وشهادات اعتراف.


2. دور القطاع الخاص

بدأت شركات كبرى في الخليج بتضمين التطوع ضمن مسؤوليتها المجتمعية، عبر تشجيع الموظفين على المشاركة في أنشطة مجتمعية، ومنحهم إجازات تطوعية مدفوعة الأجر. وتعد هذه الشراكات بين القطاعين العام والخاص من العوامل المحفزة لاستدامة المبادرات.


3. التكنولوجيا في خدمة التطوع

أطلقت دول الخليج عدة تطبيقات ومنصات إلكترونية مثل "متطوعين.إمارات" و**"المنصة الوطنية للتطوع"** في السعودية، لربط المتطوعين بالفرص المناسبة لهم، وتسهيل عمليات التسجيل والتوثيق والمتابعة.


سابعًا: أمثلة ملهمة من العمل التطوعي الخليجي

1. "إكسبو 2020 دبي" ومشاركة آلاف المتطوعين

شارك أكثر من 30 ألف متطوع من 135 جنسية في إنجاح إكسبو 2020، مما أظهر للعالم قدرة الشباب الخليجي على التنظيم والمبادرة، وأكد أن التطوع يمكن أن يكون جزءًا لا يتجزأ من الأحداث الكبرى.


2. حملة "نحن أهل" في الكويت

أطلقت في الكويت مبادرة تطوعية خلال جائحة كورونا لتقديم المساعدات الغذائية والطبية للمحتاجين، بمشاركة آلاف المتطوعين من مختلف الفئات، مما عزز روح التضامن الوطني.


خاتمة

يمثل العمل التطوعي في دول الخليج اليوم تحولًا نوعيًا من ثقافة عطاء فردية إلى نهج مؤسسي وتنموي مستدام. ومع الدعم الحكومي، والشراكات مع القطاع الخاص، واندفاع الشباب، بات التطوع أداة فعالة لتحقيق رؤية المجتمعات الخليجية لمستقبل أكثر إشراقًا وتكافلًا. ومع استمرار التطوير والتوعية، يمكن للتطوع أن يكون حجر الزاوية في بناء مجتمعات مزدهرة، متماسكة، وقادرة على مواجهة تحديات المستقبل.

تعليقات